“لقد درست مادة القانون الدستوري على يد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو”
هذه الجملة يقولها المحامين الذين درسوا في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو بكل تفاخر، لأن الذي درس لهم هذه المادة هو الرئيس الأمريكي بنفسه. ولكن … هل كان أوباما رئيسًا لأمريكا عندما كان يدرّس في جامعة شيكاغو؟
بالطبع لا .. لقد قام أوباما بالتدريس في جامعة شيكاغو بين عامي (1992 – 2004)، أي قبل توليه الرئاسة بخمس سنوات كاملة. وهنا يأتي السؤال: هل هذا المحامي المتفاخر يكذب؟ أم أنه أخطأ؟
ببساطة لن يخمّن المستمع أن هذا المحامي يكذب، لأنه يعلم أن المحامي يذكر أوباما بأكبر وظيفة وصل إليها، وهي الوظيفة التي يعرفها كل المستمعين إليه، ألا وهي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
بالعودة إلى الكتاب المقدّس، نجد أن المشككين في صحة الكتاب المقدس قاموا بنفس الخطأ. ففي إنجيل مرقس يذكر عن السيد المسيح المقولة التالية:
‘فقالَ لهُمْ: «أما قَرأتُمْ قَطُّ ما فعَلهُ داوُدُ حينَ احتاجَ وجاعَ هو والّذينَ معهُ؟ كيفَ دَخَلَ بَيتَ اللهِ في أيّامِ أبيأثارَ رَئيسِ الكهنةِ، وأكلَ خُبزَ التَّقدِمَةِ الّذي لا يَحِلُّ أكلُهُ إلّا للكهنةِ ، وأعطَى الّذينَ كانوا معهُ أيضًا ». ‘إِنجيلُ مَرقُسَ 2 :25-26
في حين أن سفر صموئيل الأول يحكي هذه القصة كالتالي:
“فجاءَ داوُدُ إلَى نوبٍ إلَى أخيمالِكَ الكاهِنِ ، فاضطَرَبَ أخيمالِكُ عِندَ لقاءِ داوُدَ وقالَ لهُ: «لماذا أنتَ وحدَكَ وليس معكَ أحَدٌ؟». فقالَ داوُدُ لأخيمالِكَ الكاهِنِ: «إنَّ المَلِكَ أمَرَني بشَيءٍ وقالَ لي: لا يَعلَمْ أحَدٌ شَيئًا مِنَ الأمرِ الّذي أرسَلتُكَ فيهِ وأمَرتُكَ بهِ، وأمّا الغِلمانُ فقد عَيَّنتُ لهُمُ المَوْضِعَ الفُلانيَّ والفُلانيَّ. والآنَ فماذا يوجَدُ تحتَ يَدِكَ؟ أعطِ خَمسَ خُبزاتٍ في يَدي أو المَوْجودَ». فأجابَ الكاهِنُ داوُدَ وقالَ: «لا يوجَدُ خُبزٌ مُحَلَّلٌ تحتَ يَدي، ولكن يوجَدُ خُبزٌ مُقَدَّسٌ إذا كانَ الغِلمانُ قد حَفِظوا أنفُسَهُمْ لا سيَّما مِنَ النِّساءِ». فأجابَ داوُدُ الكاهِنَ وقالَ لهُ: «إنَّ النِّساءَ قد مُنِعَتْ عَنّا منذُ أمسِ وما قَبلهُ عِندَ خُروجي، وأمتِعَةُ الغِلمانِ مُقَدَّسَةٌ. وهو علَى نَوْعٍ مُحَلَّلٌ ، واليومَ أيضًا يتَقَدَّسُ بالآنيَةِ ». فأعطاهُ الكاهِنُ المُقَدَّسَ ، لأنَّهُ لم يَكُنْ هناكَ خُبزٌ إلّا خُبزَ الوُجوهِ المَرفوعَ مِنْ أمامِ الرَّبِّ لكَيْ يوضَعَ خُبزٌ سُخنٌ في يومِ أخذِهِ.” (صَمُوئِيلَ ٱلْأَوَّلُ 21 :1-6)
وهنا يأتي سؤال المشككين: لماذا يقول المسيح أن داود ذهب في أيام أبيأثار مع أن العهد القديم يذكر أن داود جاء إلى أخيمالك؟ هل أخطأ المسيح؟ أو هل أخطأ مرقس حينما كان يكتب القصة، ونسي أن يراجع معلوماته التاريخية؟
في الواقع، لا يوجد أي خطأ. لأن أبيأثار هو ابن أخيمالك، وقد أصبح بالفعل رئيس للكهنة بعد مقتل والده على يد شاول الملك في الأصحاح التالي مباشرةً، وكان أبيأثار موجودًا بالفعل في الهيكل (لأنه كان كاهن وأبوه كان رئيس الكهنة) أثناء هذه القصة. والسيد المسيح ذكر أعلى وظيفة حصل عليها أبيأثار، وهي الوظيفة التي يعرفها المستمعين في ذلك الوقت، ألا وهي رئيس الكهنة (بالعودة إلى مثال أوباما، تتضح هذه النقطة تمامًا). أيضًا إذا رجعنا إلى أقرب مخطوطة للنص الأصلي لإنجيل مرقس سنجد أن ترجمة هذه الجملة تقول (في أيام أبيأثار الذي أصبح رئيس الكهنة). وهذا يعني أن لا مرقس أخطأ، ولا السيد المسيح بالطبع.
والقارئ الواعي للكتاب المقدس يمكنه أن يعرف لماذا ذكر السيد المسيح أبيأثار بالذات في هذا الموقف. حيث أن الفريسيين كانوا يضايقون المسيح وتلاميذه ويقولون له لماذا يفعل تلاميذك هكذا، وحيث أن أبيأثار كان آخر رئيس كهنة من سلالته، وقد ساند أدونيا ضد سليمان (الوريث الشرعي للملك داود) وقام سليمان بطرده من الكهنوت، فكأن المسيح يرسل تحذيراً للفريسيين أن أبياثار سيئ السمعة في تاريخ العهد القديم باعتباره آخر رئيس كهنة من سلالته، والذي نُفي من أورشليم والكهنوت لمعارضته سليمان، ابن داود ووريث مملكته (الملوك الأول 2: 26-27). وهكذا فهو يمثل نهاية نظام قديم يزول مع مجيء خليفة داود الملكي. كما يقارن السيد المسيح نفسه والتلاميذ مع داود ورجاله، فإنه يرسم الفريسيين بالمثل في القصة من خلال تصويرهم كشخصيات مثل أبياثار.
خلاصة الأمر، الكتاب المقدس وحدة واحدة، لا يمكن أن نأخذ آية ونقارنها بآية ونقول أن هناك تناقض أو خطأ تاريخي، بل يجب أن نأخذ القصة من كل جوانبها بمراجعتها من الأسفار المختلفة في جميع أنحاء الكتاب المقدس. وكما رأينا، فإننا احتجنا للذهاب إلى سفر ملوك الأول، لنجد تفسيرًا لما قاله المسيح في إنجيل مرقس، رجوعًا إلى قصة في سفر صموئيل الأول. وهكذا يجب أن نكون على إلمام تام، وربط حقيقي بين جميع فصول وأسفار الكتاب المقدس، حتى نستطيع أن نواجه أي أفكار تشكيكية في صحة الكتاب المقدس.