لو أخبرتك أن تذهب لتُحضر لي ورقة من على سطح مكتبي المتواجد داخل غرفة المكتب، وذهبت أنت بالفعل ووجدت أن سطح المكتب لا توجد عليه أي ورقة، لكنك وجدت ورقة على الأرض ووجدت الشباك مفتوحًا، هل ستقول أنني كذبت عليك وأنني كنت أضع الورقة على الأرض من البداية؟ أم ستستنتج أن الورقة ربما تكون سقطت من على سطح المكتب إلى الأرض بفعل تيار الهواء القادم من الشباك؟
هذا بالضبط هو الرد على من يقولون أن هناك تناقض في الكتاب المقدس بخصوص موت يهوذا. فإنجيل متى يقول أنه “مَضَى وخَنَقَ نَفسَهُ.” (مَتَّى 27: 5) في حين أن لوقا البشير في سفر أعمال الرسل يقول أنه “إذ سقَطَ علَى وجهِهِ انشَقَّ مِنَ الوَسطِ، فانسَكَبَتْ أحشاؤُهُ كُلُّها. ” (أعمالُ الرُّسُلِ 1 : 18). فمن منهم يقول الحقيقة؟ لو دققنا سنجد أنه خنق نفسه، ثم بعد ذلك سقط وانشق من وسطه وانسكبت أحشاؤه. إذن هو ترتيب أحداث وليس تناقض كما يدّعي المشككين.
أما بالنسبة لشراء الحقل، فنجد إنجيل متى يقول أن رؤساء الكهنة تشاوروا واشتروا حقل الفخاري بالفضة التي رماها يهوذا لهم في الهيكل، حيث أنها ثمن دم فلا يمكن أن تدخل الخزانة، بينما سفر أعمال الرسل يقول أن يهوذا اقتنى الحقل .. فمن منهم يقول الحقيقة؟
للرد على شبهة التناقض هذه يجب أن نرجع إلى نقطتين:
النقطة الأولى هي اللغة الأصلية التي كتب بها النص، لأن الرجوع إلى اللغة الأصلية يعرّفنا ماذا كان يقصد الكاتب من النص. في سفر أعمال الرسل، يقول لوقا البشير أن يهوذا (اقتنى) حقلًا … كلمة اقتنى هنا في اللغة الأصلية كُتبت ἐκτήσατο (اكتيساتو) وهو فعل في اللغة اليونانية القديمة يعني أن شخص ربح أو اقتنى شيئًا عن طريق شخص آخر، أي طرف ثالث، أي أن يهوذا هنا كان طرف ثالث في عملية الاقتناء، وذلك يعني أنه اقتنى عن طريق شخص آخر، أي رؤساء الكهنة. إذن، فمعلمنا لوقا هنا لأنه لم يدخل في التفاصيل ذكر النتائج مباشرةً، فقال أنه سقط على وجهه (نتيجة تحلل الجسم المشنوق او انقطاع الحبل الذي شنق به نفسه) وذكر أنه اقتنى الحقل (نتيجة شراء رؤساء الكهنة للحقل بفضة يهوذا نفسه كما قال معلمنا متى في إنجيله)
النقطة الثانية هي طريقة كتابة معلمنا متى لإنجيله … نجد أن معلمنا متى يربط دائمًا الأحداث بنبوات العهد القديم لذلك فهو يذكر التفاصيل التي يمكن ربطها في ذهن اليهود بكتابهم المقدّس ليثبت لهم أن هذه الأحداث تم التنبّؤ بها بالفعل، لذلك نجده يذكر اسم الحقل (حقل الفخاري، ومعلمنا لوقا لم يذكر اسم الحقل في سفر أعمال الرسل) ويربطه مباشرة بنبوة من العهد القديم ويقول أن رؤساء الكهنة أخذوا الفضة واشتروا الحقل.
نأتي لآخر شيء، ألا وهو من هو النبي الذي تنبأ بحقل الفخاري؟ فهذه النبوة مذكورة في سفر زكريا وليس سفر إرميا!! هل أخطأ متى حين استشهد بإرميا النبي بدلًا من زكريا النبي؟
ببساطة ودون دخول في تفاصيل، كان اليهود يقسمون الكتاب المقدس (العهد القديم) إلى ثلاثة أجزاء وهُم: الشريعة – المزامير – الأنبياء. وكان اليهود يطلقون على الجزء الخاص بالأنبياء اسم إرميا (لأنه كان وقتها هو السفر الأول في المجموعة). لذلك، وكما تعوّدنا مع معلمنا متى أنه يتحدث لليهود بمفهومهم ويقرّب لهم المسافات، فقد ذكر ما يعرفه اليهود (تم ما قيل بإرميا) ولم يذكر التقسيم الذي نعرفه نحن اليوم (زكريا). كذلك أيضًا النبوة التي ذكرها متى هي نبوة تتكون من شقّين، أحدهما ذُكر في سفر زكريا، والآخر ذٌكر بالفعل في سفر إرميا، ولكن لأن هذا الجزء من الكتاب كان يطلق عليه إرميا، فلم يقم متى البشير بالتقسيم. يجب على المشكك في هذا الأمر الرجوع إلى التاريخ لمعرفة كيف كان اليهود يتعاملون مع الكتاب المقدس.
الخلاصة:
يهوذا شنق نفسه (كما ذكر إنجيل متى) ثم سقط على وجهه (كما ذكر سفر أعمال الرسل) ورؤساء الكهنة اشتروا الحقل بالوكالة بفضة يهوذا (كما قال إنجيل متى) وبذلك يكون يهوذا اقتنى الحقل كطرف ثالث كما يعني فعل اقتنى في اللغة الأصلية (كما ذكر سفر أعمال الرسل)، والنبوة المذكورة في إنجيل متى هي نبوة تتكون من جزئين، أحدهما ذكر في سفر زكريا والآخر في سفر إرميا، لكن اليهود كانوا يطلقون على كل كتابات الأنبياء اسم (إرميا). وكلّما اقتربنا أكثر من الكتاب المقدس، نجد أن جميع الادّعاءات بوجود تناقضات داخله هي مجرد ادعاءات باطلة ومحاولات فاشلة للنيل من الكتاب المقدس، الكتاب الوحيد الذي صمد أمام النقد آلاف الأعوام.